الفصل الثاني

ما يقوله الحديث عن الكتاب المقدس

 

درسنا في الفصل السابق شهادة القرآن لصحّة التوراة والإنجيل ولكن هذه ليست نهاية دراستنا، فإن عند المسلمين مصدراً آخر للعقيدة هو (الحديث) وينقسم الحديث إلى: حديث قدسي، وهو كلام الله غير المدوَّن في القرآن، وحديث نبوي وهو ما قاله نبي المسلمين أو فعله، وقد رواه صحابته وهناك السُّنَّة، وهي الممارسات المسجلة عن النبي وكانت كلمة (السُّنة) و(الحديث) أول الأمر مترادفتين، ولكن كلمة (السنة) أصبحت تحمل معنى دينياً آخر، فبالإضافة إلى أن أقوال النبي وأفعاله كانت تُتلى لفائدة المؤمن الدينية، أصبحت قانوناً دينياً يُمارَس في حياة كل يوم وأصبحت السنَّة مصدراً ثانياً للتشريع إلى جوار القرآن ويعتبر المسلمون أن الأحاديث التي جمعها كلٌّ من البخاري ومسلم (ويدعونهما الشيخين) هي أصحّ الأحاديث.

 

ويقول المسلمون إن القرآن يقدم العقائد الأساسية، بينما يوضح الحديث الشرائع الغامضة في القرآن، ولذلك لا يمكن فهم الدين بدون الاثنين معاً

ولكن الصعوبة التي تواجه الباحث هي معرفة مدى صحة أي حديث، فقد رُويت عن محمد أحاديث كثيرة عبر السنين، أدرك معها المسلمون أن ليست كل هذه الأحاديث  صحيحة، فقام الفقهاء بدراسات مضنية لتحقيق الصحيح من الضعيف من المدسوس! وقد درس الإمام البخاري 600 ألف حديث قبل منها 7397 حديثاً فقط على أنها صحيحة (ويقول البعض إن الصحيح كان 7295 فقط) فإذا استبعدنا الأحاديث المكررة وجدنا مجموع الأحاديث 2762 حديثاً.

 

ولكن لماذا نجد حديثاً كاذباً أو ضعيفاً أو مدسوساً؟ أظن الإجابة تكون: إما لإكرام الإسلام، أو إكرام رسوله، أو لإثبات فكرة ما قال الأستاذ فضل الرحمن في كتابه (الإسلام):

(بنموّ التمزُّق الداخلي بين الممارسات الصوفية من جانب وقوة الإسلام الأصولي من جانب آخر، جاءت مجموعة جديدة من الأحاديث لقد أراد الصوفيون أن يعززوا موقفهم، فاختلقوا أحاديث خيالية، لا صحة لها تاريخياً وعزوها إلى النبي) ثم قال: (وهكذا ترى أن المواقف الفقهية بالنسبة للحرية الإنسانية والصفات الإلهية (إلخ) نُسبت إلى النبي نفسه)

ويبقى السؤال الملحّ: أية أحاديث هي الصحيحة؟ عندما وجَّهتُ هذا السؤال إلى أحد المسلمين قال لي: (أَقبل الحديث الذي يبدو لي معقولاً) وقال لي مدرّس مسلم: (لقد سألت نفسي هذا السؤال منذ عشر سنوات، وحتى اليوم لم أجد له جواباً) وقرر بعض المسلمين أن يرفضوا الحديث تماماً، ولعل عذرهم في ذلك أن بعض معلّمي الدين الإسلامي لا يزالون يستخدمون الأحاديث المشكوكة التي تتناسب مع أغراضهم وقد اختار الإمام محيي الدين النووي أربعين حديثاً  في القرن السابع الهجري، وذكر في مقدمة كتابه سبب ذكرها:

(عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري (حذفنا العنعنة، وفيها عبد الملك بن هارون) أن رسول الله قال: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة  في زمرة الفقهاء والعلماء) وفي رواية أخرى (بعثه الله فقيهاً عالِماً)

ولكن الغريب أن الإمام النووي يقول بعد ذلك:

(واتفق الحفّاظ على أنه حديث ضعيف، فيه عبد الملك بن هارون، قال عنه ابن معين إنه كذاب وضعَّفه النووي في خطبة الأربعين النووية) (مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني، حديث رقم 258)

فإن كان (حديث الأربعين) معزوّاً إلى رواية كل هؤلاء الأبطال، ثم يكون ضعيفاً، فماذا يكون موقف صاحب المعرفة الدينية العادية من الحديث القدسي أو النبوي؟ أعتقد أنه أقل ما يكون، سيجد نفسه في حيرة! كتب الدكتور أحمد النشاش في مجلة (منار الإسلام) (يناير وفبراير 1981) مقالاً بعنوان (المسيح الدجال بين الحقيقة والخيال) اقتبس فيه كتابات كُتّاب معروفين توضح معايير قياس صحة الحديث قال: (بعد أن قال الأستاذ عبد الرزاق نوفل أن لا ذكر للمسيح الدجال في القرآن، وبعد أن برهن أن الأحاديث فيه موضوعة، تساءل: كيف إذاً نتمسك بالأحاديث التي لا تساندها آيات قرآنية؟ ثم اقتبس من الدكتور مصطفى محمود قوله إن المسلمين يأخذون عقيدتهم عن مصدرين هما الكتاب (القرآن) والسنّة، لا يفرّقون بينهما، لأن السّنّة وحي واقتبس تأييداً لقوله سورة النجم 53:3 و4 (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) والنتيجة أننا يجب أن نقبل كل حديث صحيح، سواء اتفق أو اختلف مع القرآن ويعالج الدكتور أحمد النشاش مشكلة أخرى: ماذا عن الحديث الصحيح الذي يناقض آية قرآنية؟ يقول: هذه مسألة أخرى، تحتاج إلى تفسير الحديث، وهل هو سابق للآية أم الآية سابقة له).

 

من هنا نرى أن الأستاذ نوفل يطلب أن يسند القرآن الحديث، بينما يرى الدكتور مصطفى محمود أن هذا ليس ضرورياً، لأن كل ما نطق به الرسول سواء كان قرآناً أو حديثاً هو وحي يوحى فإذا تعارض القرآن والحديث فيجب أن تُجرى دراسة متأنية.

 

ولا شك أن هناك أحاديث صحيحة، وهناك أحاديث تتشابه مع أقوال الكتاب المقدس ويقول الأستاذ حميد الله (في مقدمة ترجمته للقرآن إلى الفرنسية) إن كل ما جاء في (صحيح البخاري) صحيح، ويقول:

(لنفترض أن البخاري قال: سمعتُ من أحمد بن حنبل أنه أخذ عن عبد الرزاق عن معمر عن همام الذي سمع من أبي هريرة أن الرسول قال كذا وكذا لقد اكتُشفت في أواخر الحرب العالمية الثانية مخطوطات عن همام ومعمر وعبد الرزاق (ولو أن الأستاذ حميد الله لا يعطي تاريخ تلك المخطوطات) وعندما نبحث المصادر السابقة للبخاري نجد أنها لم تكذب، ولا حوت أساطير زمانها، ولكنه بنى عمله على أسانيد مكتوبة صحيحة)

ولكن بالرغم من دفاع الأستاذ حميد الله عن الحديث، يبقى عدم التأكّد في فكر كل مسلم.

 

الإنجيل كأحاديث

عندما يقرأ المسلمون إنجيل المسيح كما رواه كلٌّ من متى ومرقس ولوقا ويوحنا، يقول بعضهم: (هذا مجرد حديث، وهو ليس كالقرآن) وأفهم من قولهم هذا أن القرآن شريعة سماوية توضح أسلوب الحياة، أما معظم الحديث  فيروي حياة نبيّهم، خصوصاً فيما يختص بأسباب نزول الآيات القرآنية وهم يعتقدون أن الإنجيل يجب أن يكون كالقرآن يقولون إن الروايات التاريخية من الإنجيل: (هذا مجرد حديث) بمعنى أنه ليس وحياً إلهياً، أو أنه في درجة ثانية وكمثال لذلك لنتأمل الإنجيل كما رواه لوقا 8:19-21 (19 وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ 20 فَأَخْبَرُوهُ: (أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْكَ) 21 فَأَجَابَ: (أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللّهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا) وكما أفهم من المسلمين أنهم يعتبرون آية 21 وحدها من إنجيل المسيح ويقولون (بطريقة الحديث):

(عن يعقوب أخ المسيح غير الشقيق (عليه السلام) في مناسبة وحي لوقا 8:21 (أمي وإخوتي وأنا ذهبنا طالبين رؤية المسيح، ولكننا لم نقدر أن نصل إليه بسبب الجمع فقال له أحدهم: أمك وإخوتك واقفون خارجاً يريدون أن يروك، فنزلت آية 21) (روى هذا الحديث لوقا ومرقس في كتابهما، ومعهما متى ويوحنا) وهم أفضل من روى الحديث.

وإليك مثال آخر من تعليم المسيح عن الطعام جاء في مرقس 7:15(لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الْإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الْإِنْسَانَ) وهذا يكون قرآناً وفي كتاب آخر نجد الحديث التالي:

(عن بطرس، أحد الحواريين الاثني عشر، رضي الله عنه وأرضاه، أن تعليم المسيح عن الطعام الوارد في مرقس 7:15 و20-23 نزل كالآتي:

(جاء بعض الفريسيين والكتبة من أورشليم، ورأوا بعضنا يأكل بأيدٍ غير مغسولة، فسألوا المسيح: لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقليد الشيوخ، بل يأكلون بأيدٍ غير مغسولة؟

فدعا المسيح كل الجمع وقال لهم: اسمعوا مني كلكم وافهموا ليس شيء من خارج الإنسان  (الآية) ثم صرف الجمع، ودخلنا البيت فسألناه عن المثَل، فأجاب: أفأنتم هكذا غير فاهمين؟ أما تفهمون أن كل ما يدخل الإنسان من خارج لا يقدر أن ينجسه، لأنه لا يدخل إلى قلبه بل إلى الجوف، ثم يخرج إلى الخلاء ثم أُوحي إليه فقال: إن الذي يخرج من الإنسان ذلك ينجس الإنسان (الآية)) روى هذا الحديث مرقس، عن بطرس، ورواه متى أيضاً.

ويتضح من هذا أن الإنجيل (كما هو بين أيدينا اليوم) لا يحقق توقّعات المسلم، فكلمات المسيح وحدها هي الوحي، وما عدا ذلك فهو ملاحظات توضيحية إنها كالحديث الذي يمكن الطعن في صحته، وهو أقل درجة من نص الوحي ولقد رأينا أن بعض المسلمين يعتقدون أن الحديث ليس في مرتبة الوحي.

 

وواضح أن اعتقاد المسيحيين في الوحي يختلف عن اعتقاد المسلمين فيه ونحن المسيحيين لا نقول إن أقوال المسيح هي وحدها الوحي، ولا نقول إن التوضيحيات هي كالحديث ولكننا نقول إن كل ما هو في الإنجيل موحى به من الله، سواء كان أقوال المسيح أو الرواية التاريخية التي نطق المسيح فيها بتعاليمه.

 

وقد تحيّرتُ وأنا أقرأ في القرآن قصص الأنبياء فهل أعتبرها في درجة الحديث؟ إنه يروي كيف عصى آدم ربه وغوى، وكيف نجا نوح من الطوفان، وكيف نجا موسى من الغرق والموت، وكيف وُلد المسيح وهو يروي الأخبار المفرحة التي أُعلِنت لإبرهيم بولادة إسحق بالتفصيل في ثلاثة أماكن: من العهد المكي الأول في سورة الذاريات 24-37 ومن العهد المكي المتأخر في سورة هود 69-83 ومن العهد نفسه في سورة الحِجْر 51-77 كما أن السورة 28 تحمل اسم (سورة القَصَص) فلماذا نسمع الشكوى من أن الإنجيل يحوي قصصاً؟

 

حل المشكلة

لقد تحيّرت وأنا أرى البعض يعلّقون على الحديث أهمية قصوى، بينما البعض الآخر يراه عديم الفائدة ثم قرأت ما قاله الأستاذ فضل الله في كتابه (الإسلام):

(لو أننا رفضنا الحديث كله فإننا نزيل الأسس التاريخية للقرآن بضربة واحدة) (ص 66)

وقد يختلف البعض مع هذه العبارة، ولكن لو تأملوها بعناية لوافقوا معها فالقرآن يحوي مواد تاريخية، ولكن ليس به إلا القليل عن حياة محمد وغزواته إلخ فلو رفضنا الحديث كله فلن نعرف كيف صام محمد أو تعبَّد في الغار، ولا كيف جاءه أول الوحي، ولا كيف هاجر للمدينة ومع أن موقعة بدر هامة جداً في التاريخ الإسلامي إلا أن اسمها ورد في القرآن مرة واحدة في سورة آل عمران 123 (وتعود إلى سنة 2 أو 3 ه) ولنعرف ما حدث وأهمية ذلك نحتاج للحديث وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب فصل 3 سنرى أن كل معلوماتنا عن أصل القرآن جاءت في الحديث.

 

وهكذا نكتشف أنه ليتأكد المسلمون أن القرآن وحي يوحى، يحتاجون للرجوع إلى الحديث الذي هو أقل تأكيداً من القرآن، وبه المشكوك فيه! وعلى كل مسلم (بمن فيهم الذين يصغّرون من شأن الحديث) أن يقرروا إن كانت شهادة أبي بكر وعمر وعثمان وسائر من اقتُبست أقوالهم في الحديث صحيحة، وإن كانت قد نُقلت عنهم بأمانة، تكفي ليصدّقوا ما قالوه عن الوحي القرآني.

 

على أن إدراكنا لأهمية الحديث القصوى تُرينا أنه لا حقَّ للمسلم أن ينتقد الروايات الواردة في التوراة والإنجيل، لأنه إن كان برهان وحي القرآن يجيء من الحديث الذي اختلفوا في صحته، فعلى أي أساس يرفض المسلم حقيقة موت المسيح ليفدينا من خطايانا، وهي مؤيَّدة بالروايات التي تشبه أسلوب الحديث، والواردة في وحي الإنجيل نفسه؟

 

معلومات توضيحية في وحي الإنجيل

يؤمن المسيحيون أن رُواة الإنجيل كتبوا ما كتبوه بوحي الروح القدس، الذي قادهم ليختاروا (الحديث) الذي يوضح الوحي، كما قادهم ليسجلوا ما اقتبسوه من كلمات المسيح فهناك روايات تاريخية لحديث الملاك جبرائيل للعذراء مريم، وعن ميلاد المسيح العذراوي، وعن المعجزات التي أجراها المسيح ليبرهن صدق إرساليته وأنه فعلاً (كلمة الله)، وعن موته لأجل خطايانا وقيامته من بين الأموات، ثم ارتفاعه للسماء وقد تسجَّلت هذه بوحي الروح القدس، كما تسجلت شريعة المسيح في الموعظة على الجبل، وكما تسجلت تعاليم المسيح عن كيف يريدنا الله أن نحيا فنحن نؤمن أنه قبل كل فصل في الكتاب المقدس يمكن أن نكتب (قال الله).

 

لماذا نعالج أمر الحديث؟

قد يسأل القارئ: لماذا نعالج أمر (الحديث) في كتاب يتحدث عن القرآن والكتاب المقدس والعِلم؟ والإجابة: لأن القرآن هو أحد مصادر العقيدة عند المسلم، والحديث مصدر آخر ولعل عنوان كتاب د بوكاي كان يجب أن يكون (القرآن والحديث، والتوراة والإنجيل، والعِلم).

 

ولذلك لا يكفي أن ندرس ما قاله القرآن عن التوراة والإنجيل، بل يجب أن ندرس ما قاله الحديث أيضاً عنهما، لنرى إن كان يساند الاتهام الموجَّه لليهود والمسيحيين أنهم حرَّفوا كتبهم المقدسة.

 

كما أن بالحديث اقتباسات تختص بالعِلم، ويدرك د بوكاي هذا فيناقشه في فصل قصير يبدأ بصفحة 273 من كتابه، ويقول إنه حتى الأحاديث الصحيحة تحوي أخطاء علمية كبيرة ومن شأن هذا أن يثير في الذهن صعوبات فقهية وفكرية معاً وسنناقش فيما بعد مثلاً من خطأ علمي في الحديث.

 

صحة الكتاب المقدس بشهادة (الحديث)

رأينا في الفصل السابق أن بالقرآن نحو مئة إشارة للتوراة والإنجيل، فلا غرابة أن تجيء أحاديث كثيرة عنهما.

عن أبي هريرة (قال رسول الله: يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يُضلونكم ولا يفتنونكم) (مشكاة المصابيح حديث 154 - رواه مسلم)

وعن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام، فقال رسول الله: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم، ولكن (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) (سورة البقرة 2:136) (مشكاة المصابيح حديث 155 - رواه البخاري)

 

واضح  أن محمداً لم يؤيد ولم يناقض تفسير أهل الكتاب لكتابهم، ولا علّق على نص التوراة ولم يعرف المسلمون إن كان تفسير اليهود لكتابهم يتفق مع نصوص التوراة أو لا يتفق.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله لأُبي بن كعب: كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأ أمَّ القرآن، فقال رسول الله: والذي نفسي بيده ما أُنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أُعطيته) (مشكاة حديث 2142 - رواه الترمذي)

وعن جابر أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة فسكت فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغير فقال أبو بكر : ثكلتك الثواكل! أما ترى ما بوجه رسول الله؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً فقال رسول الله: والذي نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتَّبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوَّتي لاتَّبعني) (مشكاة حديث 195 - رواه الدارمي)

عن سلمان، قال: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء بعده، فذكرتُ ذلك للنبي، فقال: (بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده) (المشكاة حديث 4208 - رواه الترمذي وأبو داود)

ومحمدٌ هنا لا يمنع قراءة التوراة ولا ينكر وجودها وسكوته برهان على وجودها ولنتأمل الحديث التالي:

عن خيثمة بن أبي سبرة، قال: أتيت المدينة فسألت الله أن ييسّر لي جليساً صالحاً، فيسَّر لي أبا هريرة، فجلست إليه فقلت: إني سألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً فوُفّقتَ لي فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من الكوفة، جئت ألتمس الخير وأطلبه فقال: (أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة، وابن مسعود صاحب طهور رسول الله ونعليه، وحذيفة صاحب سر رسول الله، وعمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه، وسلمان صاحب الكتابين؟ يعني الإنجيل والقرآن) (مشكاة حديث رقم 6224 - رواه الترمذي)

واضح أن الحديث يعرّف الكتابين بأنهما الإنجيل والقرآن، لا التوراة والإنجيل، وهذا يؤكد وجود إنجيل صحيح يقرأونه.

عن زياد بن لبيد، قال: ذكر النبي شيئاً فقال: (ذاك أوان ذهاب العلم) قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونعلّمه أبناءنا ويقرأه أبناؤهم، ويعلّمونه أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: (ثكلتك أمك زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أوَليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟) (مشكاة، حديث 277 - رواه أحمد وابن ماجه)

ويوضح هذا الحديث أن محمداً قال إن اليهود والنصارى يقرأون كتبهم، ولم يذكر أنها محرّفة ولا منسوخة وربما كان يشير إلى اليهود والنصارى العرب الذين لا يفهمون لغة التوراة العبرية ولغة الإنجيل اليونانية ونحن نسأل: كم عدد الذين يقرأون كتبهم المقدسة ويفهمونها؟

 

ولكن ماذا عن حديث بدء الوحي (فانطلقت به (بمحمد) خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرأً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي) (بخاري جزء 1 ص 2) وهذا يعني أن الكتاب كان موجوداً معروفاً بين العرب.

 

وجاء في الحديث أن التوراة تنبأت عن محمد

عن عطا بن يسار قال: لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفات رسول الله في التوراة، فقال: (أجَل والله، إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ القلب ولا صخّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يأخذه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، يفتح بها أعيناً عمياً وآذاناً صُماً وقلوباً غُلفاً) (السيرة النبوية لابن كثير 1:327 - رواه البخاري)

وقد جاءت هذه النبوة في سفر إشعياء بالتوراة، ويرجع تاريخها إلى 700 سنة قبل المسيح، و1300 سنة قبل محمد، وهي مقبولة شرعياً من عطا بن يسار، وتقول: (هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلْأُمَمِ لَا يَصِيحُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لَا يُطْفِئُ... أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلْأُمَمِ، لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ) (إشعياء 42:1-3 و6 و7).

 

ولما كان عندنا شاهدان: نبوة إشعياء التوراتية، وكلمات الحديث، وهما متوافقان، ندرك أن نبوة إشعياء لم تتحرف وقد أعلن الإنجيل أن النبوة تحققت في المسيح، فهو الذي لم يكن صخّاباً، وهو الذي عفا وغفر، وهو الذي فتح عيون العمي (متى 12:18-21)

عن ابن صخر العقيلي، قال: حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله، فلما فرغت قلت لألقَينَّ هذا الرجل فلأسمعَن منه قال: فتلقّاني الرسول وأبو بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرأها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجملهم فقال له رسول الله: (أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجدني في كتابك ذا صفتي ومخرجي؟) فقال برأسه هكذا - أي لا فقال ابنه: (إي والذي أنزل التوراة إنّا لنجدك في كتابنا صفتك ومخرجك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله) فقال رسول الله: (أقيموا اليهودي عن أخيكم) ثم ولي كفنه والصلاة عليه (السيرة النبوية لابن كثير 1:232)

لقد اختلف الفتى مع أبيه في تفسير التوراة، ولكن لم يقل أحد إن التوراة محرّفة ولا منسوخة!

عن عبد الله بن عمر، أن اليهود جاءوا إلى رسول الله فذكروا له أن رجلاً وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟) قالوا: نفضحهم ويُجلَدون قال عبد الله بن سلام: كذبتم، فإن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع، فإذا آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم فأمر بهما النبي فرُجما (المشكاة حديث رقم 3559 - رواه البخاري ومسلم)

لقد طلب محمد التوراة فجيء بها، وسمع ما حكمت به، ثم قضى بحسب حكمها ولم يقل أحد إن التوراة محرفة ولا منسوخة وهذه حادثة يشير القرآن فيها إلى أن اليهود أخفوا الألفاظ، وذلك في قراءتها دون أن يغيّروا نصَّها.

وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى أن الحق لليهودي، فقضى له فقال له اليهودي: والله لقد قضيتَ بالحق فضربه عمر بن الخطاب بالدرة، ثم قال له: وما يدريك (أني قضيت بالحق)؟

فقال له اليهودي: إنّا نجد (في التوراة) أنه ليس قاضٍ يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملَك وعن شماله ملَك يسددانه ويوفقانه للحق ما دام يريد الحق فإذا ترك الحق عرجا وتركاه (الموطأ - أنس بن مالك ص 448)

لقد استمع عمر بن الخطاب لاقتباس اليهودي من توراته ولم يرفض كلمات التوراة، ولم يقل إنها من كتاب محرّف ولا منسوخ وفي الحديث السابق وهذا الحديث نرى محمداً وعمراً يقبلان كلام التوراة الذي عند يهود عصرهم باعتبار التوراة صحيحة وموقَّرة على أن هناك حديثاً واحداً يشذّ عن هذه القاعدة، رواه البخاري عن ابن عباس ولقد كان ابن عباس في الرابعة عشرة من عمره يوم مات محمد، ثم ولّاه علي بن أبي طالب على البصرة:

قال ابن عباس:

(كيف تسألون (أيها المسلمون) أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله أحدث؟ تقرأونه محضاً لم يُشَب، وقد حدّثكم أن أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيّروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أُنزل إليكم) (صحيح البخاري ج 9 ص 136)

هذا هو الحديث الوحيد الذي يشير للكتب السابقة للقرآن باعتبارها محرّفة، من بين أحاديث عديدة تشير إلى وجود توراة وإنجيل سليمين صحيحين بين المسلمين الأوائل.

 

وصحيح أن اقتباسنا من الحديث لن يغير شيئاً من موقف المسلمين الذين لا يضعون الكثير من الثقة في الحديث، ولكننا نزيد أن (مشكاة المصابيح) لا تحوي حديثاً واحداً سلبياً عن الكتب السابقة للقرآن، كما أن كل الأحاديث جاءت إيجابية ما عدا حديث ابن عباس.

 

ويمكن أن يُقال إن نفراً من اليهود الجهلة أو الأشرار ربما حرفوا نسخة كانت معهم، تحدث عنها ابن عباس ولكن سائر النسخ بقيت صحيحة، شهدت لها سائر الأحاديث لقد كان الشيخ ورقة يكتب الكتاب من الإنجيل بالعبرانية، ولم يكن ما أخذ عنه أو ما كتبه محرفاً وقال محمد إن اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل، ولم يقل إنهما محرفان وحكم بما جاء في التوراة التي بين يديه برجم اليهوديين الزانيين.

 

ونصل إلى النتيجة التي وصلنا إليها من دراسة الآيات القرآنية، فالقرآن والحديث يقولان إن توراةً وإنجيلاً صحيحين كانا بين يدي محمد في مكة والمدينة.

 

الفصل التالي    الفصل السابق

 


القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم

القرآن والعلم

كتب أخرى

الرد على الإسلام