3-مراجعة مصحف زيد بن ثابث.

بما أن المصحف الأصلي الذي جمعه زيد في عهد أبي بكر كان على قدر كاف من الكمال فقد يميل البعض إلى الأعتقاد أن نسخه كان كافيا في عهد عثمان دون أية حاجة إلى بحث موسع عن ما يجب أن يحتوي عليه و إعادة النظر فيه. لكن هناك أدلة تشير إلى أن هذا النص لم يكن ينظر إليه على هذا الأساس حيث نجد أن عثمان قد أمر بإعادة جمعه و كذا تصحيحه كلما تطلب الأمر ذلك. نقرأ في صحيح البخاري ما يلي :

"حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري وأخبرني أنس بن مالك قال فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبدالله بن الزبير وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال لهم إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش فإن القرآن أنزل بلسانهم ففعلوا " (صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 4601)

لقد رأينا سابقا أن سعيد بن العاص كان يعتبر من ذوي المعرفة الواسعة باللغة العربية و قد تم اختياره لهذا السبب و كذلك الشخصين الآخرين لأنهم كانوا ينتمون لقبيلة قريش التي كان ينتمي إليها محمد كذلك في حين كان زيد من المدينة المنورة. لقد كانت رغبة عثمان أن يكتب القرآن بلهجة قريش التي نزل بها أصلا على محمد. لهذا أمر أن يكتب بهذه اللهجة كلما وقع هنالك اختلاف بين زيد وهؤلاء الثلاثة. يتبين لنا مرة أخرى أن الأمر لم يكن يتعلق فقط بنقاط اختلاف تهم طريقة النطق و الترتيل لأن هذا النوع من الإختلاف لا يمكن أن يكون له أثر على النص المكتوب. من الو اضح إذن أن عثمان قام بإدخال تعديلات على النص المكتوب حين أمر الكتاب الأربعة بالعمل سويا بل هناك أدلة على أن عثمان لم يكتفي بهؤلاء الأربعة بل تشاور مع بعض الصحابة الآخرين بخصوص جمع ا لقرآن و ربما كانت هناك مراجعة شاملة للمصحف (الإتقان-السيوطي ص 131)

هناك رواية مفادها أن زيد كان عليه أن يتذكر آية فقدت من المصحف الذي جمعه زيد في عهد أبي بكر :

"قال زيد : فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت سمعت رسول الله يقرأ بها‚ فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري -من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه-فألحقناها في سورتها في المصحف" (الإتقان - السيوطي ص 130)

نفس الرواية حول فقدان ما يعتبر الآن الآية 23 من سورة الأحزاب نجدها في صحيح البخاري (كتاب تفسير القرآن 4411). في النظرة الأولى نلاحظ أن هذه الرواية تشبه إلى حد بعيد تلك التي تتحدث عن فقدان الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة خلال عملية جمع القرآن في عهد أبي بكر التي قام بها نفس الشخص يعني زيد. جُمِع القرآن واكتشفوا فيما بعد أن مقطعا فُقِد منه فوُجِد أخيرا عند خزيمة بن ثابت. زيادة على هذا هناك حديث سبق ذكره مفاده أن الحادث وقع زمان عثمان لهذا يرى الصديق أن الرواية التي تتحدث عن الآية المفقودة من سورة الأحزاب إنما تتعلق بالآيتين الأخيرتين من سورة براءة و أن الحديث المتعلق بهاته الآيتين اكثر صحة من الآخر (البلاغ المصدر السابق ص 2)

المعطيات المتوفرة لا تمكننا من إصدار أية استنتاجات حول هذا الموضوع‚ فقط نستغرب من كون زيد لم يكتشف فقدان آية من القرآن إلا بعد مرور 19 سنة على وفاة محمد و بمحض الصدفة يكون قد وجدها عند نفس الصحابي الذي وجد عنده الايتين الأخيرتين من سورة براءة! لقد رأينا سالفا أن خزيمة هذا هو الذي أثار انتباه زيد إلى عدم وجود آيتين من سورة براءة. فإذا كان هنالك نص آخر فقد ولم يوجد إلا معه فلمذا بقي صامتا ولم يتحدث عنه خلال هذه المدة الطويلة؟

ديزاي لا يشك في صحة الحديث المذكور لكن يفسر المسألة بزعمه أن الآية 23.33 كانت بالفعل موجودة في المصحف الأصلي الذي جمع في عهد أبي بكر لكن وقع نسيانها خلال عملية النسخ في عهد عثمان و يردد مرة أخرى أن الآية كانت معروفة لدى "عدد كبير من الحفاظ" (The Quran Unimpeachable, p.38). هذا المزعم لا يستطيع أن يصمد أمام التحليل النقدي.

المصحف الذي قام زيد و مساعدوه بنقله لم يتم إحراقه مع المصاحف التي أحرقت بل أعيد إلى حفصة بعد انتهاء العمل به. إذن لو كانت الآية المعنية بالأمر موجودة فيه فلن تكون الحاجة للبحث عنها (إلى أن وجدت عند أبي خزيمة).

في نفس السياق لا يمكن قبول فكرة أن الآية كانت تُفقَدُ كل مرة يُنقَلُ فيها مصحف ليُرسل لإحدى الأقطار الإسلامية رغم كونها موجودة في المصحف الأصلي! إن الأدلة التي يقدمها ديزاي لتفسير فق دان الآية في المصاحف هي أدلة واهية لا يمكن قبولها. ليس للحديث إلا معنى واحد ألا و هو أن ال آية لم يتذكرها زيد إلا بعد انتهاء العملية الثانية لجمع القرآن بأمر من عثمان. وقوع مثل هذا الحدث محتمل إذا علمنا أن زيد لم يطلب منه التدقيق في المصحف في السنوات التي فصلت بين جمعه لمصحف أبي بكر و أمر عثمان بإعادة جمع القرآن.

يحاول الصديق من جديد أن يقنعنا بأن زيد لم يجد الآية في شكل مكتوب رغم كونها معروفة جيدا لدى الصحابة. إنه يرفض المعنى الواضح للحديث الذي قدمنا (فُقِدت أية من سورة الأحزاب...) قائلا إن فيه شيء من "عدم الدقة" و إن المعنى الحقيقي هو : "لم أجد أية..." بعبارة أخرى لم يكن زيد يجهل وجود هذه الآية بل حاول فقط التأكد من وجودها على شكل مكتوب. الكلمة الرئيسية في الحديث هي "فُقِدَت" و تعني "ضاع مني‚ حُرِمت من..." و هي شائعة الإستعمال في حالة وفاة شخص ما (المفقود=الشخص المتوفى). المعنى في سياق الحديث الذي يهمنا ليس أن زيد حاول البحث عن آية محفوظة عند الصحابة في ما كتب من القرآن بل حاول أن يجد آية ضاعت كليا من القرآن و لم توجد أخيرا إلا عند أبي خزيمة.

إذا كانت هذه الرواية صحيحة (1) فإنها توضح بما يدع مجالا للشك أن المحاولة الأولى لزيد بن ثابت لجمع مصحف مكتمل لم تكن ناجحة مائة بالمائة حيث لم تضف الآية من سورة الأحزاب إلا بعد الإنتهاء من نسخ المصاحف خلال المحاولة الثانية التي تمت في عهد عثمان.

يتبين لنا الآن أن ما يقال عن الكمال المطلق للقرآن و خلوه من الزيادة و التحريف و الإختلاف لا يمكن أن يثبت و يصمد أمام البراهين الثاقبة فما هو إلا نِتاج للمشاعر و المتمنيات لا يمس بصلة إلى الإثبات العقلي!


(1) {و هي كذلك بالنظر إلى معيار الصحة الذي يقدمه لنا علم الحديث}

رجوع